ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل قام كذلك ببناء مذبح لهذا العجل وأمر اليهود بعبادته وتقديم الذبائح إليه وبالطبع لا بد أن يكون هارون عليه السلام كما تدعي التوراة المحرفة أول العابدين لهذا العجل كيف لا وهو الذي صنعه وأمر الناس بعبادته كما يزعمون.
لقد نصت التوراة الحالية في مواضع لا تحصى على أن هارون عليه السلام كان نبيا من الأنبياء وأن الله قد أجرى على يديه كثيرا من المعجزات فقد جاء في الإصحاح السادس من سفر الخروج "26هذَانِ هُمَا هَارُونُ وَمُوسَى اللَّذَانِ قَالَ الرَّبُّ لَهُمَا: «أَخْرِجَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ» بِحَسَبِ أَجْنَادِهِمْ. 27هُمَا اللَّذَانِ كَلَّمَا فِرْعَوْنَ مَلِكَ مِصْرَ فِي إِخْرَاجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ. هذَانِ هُمَا مُوسَى وَهَارُونُ.
بل إن من تناقضات التوراة المحرفة أن أكدت على أن المعجزات كانت تجري على يد هارون وليس على يد موسى عليهما السلام فقد جاء في الإصحاح السابع من سفر الخروج ما نصه "8وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى وَهَارُونَ قَائِلاً: 9«إِذَا كَلَّمَكُمَا فِرْعَوْنُ قَائِلاً: هَاتِيَا عَجِيبَةً، تَقُولُ لِهَارُونَ: خُذْ عَصَاكَ وَاطْرَحْهَا أَمَامَ فِرْعَوْنَ فَتَصِيرَ ثُعْبَانًا». 10فَدَخَلَ مُوسَى وَهَارُونُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَفَعَلاَ هكَذَا كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ. طَرَحَ هَارُونُ عَصَاهُ أَمَامَ فِرْعَوْنَ وَأَمَامَ عَبِيدِهِ فَصَارَتْ ثُعْبَانًا. 11فَدَعَا فِرْعَوْنُ أَيْضًا الْحُكَمَاءَ وَالسَّحَرَةَ، فَفَعَلَ عَرَّافُو مِصْرَ أَيْضًا بِسِحْرِهِمْ كَذلِكَ. 12طَرَحُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَصَاهُ فَصَارَتِ الْعِصِيُّ ثَعَابِينَ. وَلكِنْ عَصَا هَارُونَ ابْتَلَعَتْ عِصِيَّهُمْ. 13فَاشْتَدَّ قَلْبُ فِرْعَوْنَ فَلَمْ يَسْمَعْ لَهُمَا، كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ".
وقد جاء القرآن الكريم فأكد على نبوة هارون عليه السلام وذكر على أن ذلك كان استجابة لطلب موسى عليه السلام من الله أن يشرك أخاه هارون معه في أمر الرسالة كما في قوله تعالى "قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى" طه25-36.
وبعد ما تأكد لنا أن التوراة تعترف بنبوة هارون عليه السلام وكما أكد على ذلك القرآن الكريم فهل يمكن لأي إنسان عاقل أن يصدق فرية التوراة المحرفة من أن هارون عليه السلام قد ضل كما ضل قومه فقام بصناعة العجل ليكون إلها له ولبني إسرائيل! إن من أبسط قواعد الاعتقاد أن الله سبحانه وتعالى إذا ما اختار شخصا ليكون رسولا أو نبيا فإنه يعصمه من الوقوع في الخطأ وخاصة في الأمور الإعتقادية مصداقا لقوله تعالى "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" آل عمران 79-80 وقوله تعالى "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا " الجن 26-28.
ومما يؤكد أن هذا النص التوراتي قد كتب بأيدي بشرية وليس وحيا من الله هو وجود تناقضات أخرى كثيرة فيه منها أن النص يقرر في بدايته أن هارون عليه السلام قد قام بسبك العجل باستخدام الإزميل ومن ثم يقول في آخر النص أنه ألقى الذهب في النار فخرج العجل منها! ومنها أن موسى عليه السلام قد أمر المؤمنين من بني إسرائيل بقتل أقربائهم الذين عبدوا العجل وقد فعلوا ذلك وعليه فإن هارون لا بد وأن يكون أول المقتولين وبيد أخاه موسى عليه السلام لأنه هو الذي صنع العجل وهو الذي بنى له مذبحا وأمرهم بعبادته ولكن هارون عليه السلام لم يقتل بل بقي وزيرا لأخيه موسى عليه السلام لفترة طويلة بعد الخروج مما يؤكد بطلان هذه الفرية.
وإذا ما عدنا إلى القرآن الكريم وقرأنا قصة العجل نجد أن أحداثها واضحة وضوح الشمس ولا يمكن للعقل أن يرتاب في صحة أحداثها لما فيها من تسلسل منطقي ولتماشيها مع أبسط قواعد الاعتقاد.
لقد جاء القرآن الكريم بعد مرور أكثر من ألفي عام على مجريات هذه الأحداث ليبرئ هارون عليه السلام من هذه التهمة الباطلة ويحدد هوية الشخص الذي قام بصنع عجل بني إسرائيل وهو السامري بل ويؤكد كذلك على أن هارون عليه السلام عمل ما بوسعه لمنع بني إسرائيل من عبادة العجل حتى كادوا أن يقتلوه ولولا تخوفه من إحداث فتنة بينهم لخرج بالمؤمنين منهم ليلحق بأخيه موسى عليه السلام كما جاء ذلك في قوله تعالى "وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)" طه 83-99.
وكما هو واضح من هذه الآيات القرآنية أن موسى عليه السلام قد عنف هارون عليه السلام أشد التعنيف لمجرد بقاؤه في بني إسرائيل وهم يعبدون العجل فكيف الحال لو كان الأمر كما تدعي التوراة المحرفة.وقدت بينت الآيات كذلك الطريقة التي صنع بها السامري العجل فقد صنعه بطريقة أقرب ما تكون لطرق االسحر وليس من خلال السبك المباشر كما بينت ذلك كتب التفسير وهذا أدعى لأن يصدقه بني إسرائيل لكونه صنعه بطريقة أشبه ما تكون بالمعجزة فبعد أن قذف الذهب في النار أتبعها بقذف حفنة من التراب وراءها سبق وأن أخذها من أثر الرسول والتي تقول التفاسير أنه جبريل عليه السلام فخرج من النار عجل له خوار.
المراجع
1- .القرآن الكريم
2- التوراة
3- تفاسير ابن كثير والطبري والقرطبي